الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأوسع منه عندهم نحوُ قول أبي النجم: ثم إذا أرادوا العناية بتحقيق هذا الاتحاد جاءوا بها التنبيهِ فقالوا: هَا أنا ذا يقوله المتكلم لمن قد يشك أنه هو نحو قول الشاعر: فإذا كان السبب الذي صحح الإخبار معلومًا اقتصَر المتكلم على ذلك وإلا أَتْبَع مثلَ ذلك التركيب بجملة تدل على الحال التي اقتضت ذلك الإخبار ولهم في ذلك مراتب: الأولى {ثم أنتم هؤلاء تقتلون}، الثانية: {ها أنتم أولاء تحبونهم} [آل عمران: 119].ومنه ها أنا ذا لديكما قاله أمية بن أبي الصلت.الثالثة {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا} [النساء: 109] ويستفاد معنى التعجب في أكثر مواقعه من القرينة كما تقول لمن وجدته حاضرًا وكنت لا تترقب حضوره ها أنت ذا، أو من الجملة المذكورة بعده إذا كان مفادها عجيبًا كما رأيت في الأمثلة.والأظهر أن يكون الضمير واسم الإشارة مبتدأ وخبرًا والجملة بعدهما حالًا، وقيل: هي مستأنفة لبيان منشأ التعجب، وقيل: الجملة هي الخبر واسم الإشارة منادى معترض ومنعه سيبويه، وقيل: اسم الإشارة منصوب على الاختصاص وهذا ضعيف.وعلى الخلاف في موقع الجملة اختلف فيما لو أتى بعدها أنت ذَا ونحوِه بمفرد فقيل يكون منصوبًا على الحال وقيل: مرفوعًا على الخبر ولم يسمع من العرب إلا مثال أنشده النحاة وهو قوله: ولأجل ذلك جاء ابن مالك في خطبة التسهيل بقوله: وها أنا ساع فيما انتدبت إليه، وجاء ابن هشام في خطبة المغني بقوله: وها أنا مبيح بما أسررته.واختلف النحاة أيضًا في أن وقوع الضمير بعد ها التنبيه هل يتعين أن يعقبه اسم الإشارة فقال في التسهيل هو غالب لا لازم وقال ابن هشام هولازم صرح به في حواشي التسهيل بنقل الدماميني في الحواشي المصرية في الخطبة وفي الهاء المفردة.وقال الرضى إن دخول ها التنبيه في الحقيقة إنما هو على اسم الإشارة على ما هو المعروف في قولهم هذا وإنما يفصل بينها وبين اسم الإشارة بفاصل فمنه الضمير المرفوع المنفصل كما رأيت ومنه القسم نحو قول الشاعر من شواهد الرضي: وشذ بغير ذلك نحو قول النابغة: وقوله: {تقتلون} حال أو خبر.وعبر بالمضارع لقصد الدلالة على التجدد وأن ذلك من شأنكم وكذلك قوله: {وتخرجون فريقًا منكم}.وجعل في (الكشاف) المقصود بالخطابات كلها في هذه الآية مرادًا به أسلاف الحاضرين وجعل قوله: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون} مع إشعاره بمغايرة المشار إليهم للذين وجه إليهم الخطاب مرادًا منه مغايرة تنزيلية لتغير صفات المخاطب الواحد وذلك تكلف ساقه إليه محبة جعل الخطابات في هذه الآية موافقة للخطابات التي في الآي قبلها، وقد علمت أنه غير لازم وأن المغايرة مقصودة هنا وقد استقامت فلا داعي إلى التكلف.وقد أشارت هذه الآية إلى ما حدث بين اليهود من التخاذل وإهمال ماأمرتهم به شريعتهم والأظهر أن المقصود يهود قريظة والنضير وقَيْنُقَاعَ.وأراد من ذلك بخاصة ما حدث بينهم في حروب بُعَاث القائمة بين الأوس والخزرج وذلك أنه لما تَقَاتَل الأوسُ والخزرجُ اعتزل اليهودُ الفريقين زمنًا طويلًا والأوسُ مغلوبون في سائر أيام القتال فدبر الأوس أن يخرجوا يسعون لمحالفة قُريظة والنَّضِير فلما علم الخزرج توعدوا اليهود إن فعلوا ذلك فقالوا لهم: إنا لا نحالف الأوس ولا نحالفكم فطلب الخزرجُ على اليهود رهائنَ أربعين غلامًا من غلمان قريظة والنضير فسلموهم لهم.ثم إن عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي أطمع قومه أن يتحولوا لقريظة والنضير لحسن أرضهم ونخلهم وأرسل إلى قريظة والنضير يقول لهم: إما أن تخلوا لنا دياركم وإما أن نقتل الرهائن فخشي القوم على رهائنهم واستشاروا كعب بن أسيد القُرظي فقال لهم: يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الغلمان فما هي إلا ليلة يصيب أحدكم فيها امرأتَه حتى يولد له مثلُ أحدهم فلما أجابت قريظة والنضير عمرًا بأنهم يمنعون ديارهم عدا عمروٌ على الغلمان فقتلهم فلذلك تحالفت قريظة والنضير مع الأوس فسعى الخزرج في محالفة بني قينقاع من اليهود وبذلك نشأ قتال بين فِرق اليهود وكان بينهم يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين فكانت اليهود تتقاتل وتجلي المغلوبين من ديارهم وتأسرهم، ثم لمَّا ارتفعت الحرب جمعوا مالًا وفدوا به أسرى اليهود الواقعين في أسر أحلاف أحد الفريقين من الأوس أو الخزرج فعيرت العربُ اليهودُ بذلك وقالت: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم فقالوا: قد حرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نخذل حلفاءنا وقد أُمرنا أن نفدي الأسرى فذلك قوله تعالى: {وإن يأتوكم أُسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم}.الواو في قوله: {وإن يأتوكم أُسارى} يجوز أن تكون للعطف فهو عطف على قوله: {تقتلون أنفسكم وتخرجون} فهو من جملة ما وقع التوبيخ عليه مما نكث فيه العهد وهو وإن لم يتقدم في ذِكر ما أُخذ عليهم العهدُ مَا يدل عليه إلا أنه لما رجع إلى إخراج الناس من ديارهم كان في جملة المنهيات.ولك أن تجعل الواو للحال من قوله: {وتخرجون فريقًا} أي تخرجونهم والحال إن أسرتموهم تفدونهم.وكيفما قدرت فقوله: {وهو محرم عليكم إخراجهم} جملة حالية من قوله: {يأتوكم} إما حال من معطوف وإما حال من حال إذ ليس فداء الأسير بمذموم لذاته ولكن ذمه باعتبار ما قارنه من سبب الفداء فحمل التوبيخ هو مجموع المفاداة مع كون الإخراج محرمًا وبعد أن قتلوهم وأخرجوهم، فجملة {وهو محرم عليكم إخراجهم} حالية من ضمير {تفادوهم}.وصُدرت بضمير الشأن للاهتمام بها وإظهار أن هذا التحريم أمر مقرر مشهور لديهم وليست معطوفة على قوله: {وتخرجون فريقًا منكم} وما بينهما اعتراض لقلة جدواه إذ قد تحقق ذلك بقوله: {ولا تخرجون أنفسكم}.وفي قوله: {وهو محرم عليكم إخراجهم} تشنيع وتبليد لهم إذ توهموا القُربة فيما هو من آثار المعصية أي كيف ترتكبون الجناية وتزعمون أنكم تتقربون بالفداء وإنما الفداء المشروع هو فداء الأسرى من أيدي الأعداء لا من أيديكم فهلا تركتم موجب الفداء؟.وعندي أن في الآية دلالةً على ترجيح قول إمام الحرمين في أن الخارج من المغصوب ليس آتيًا بواجب ولا بحرام ولكنه انقطع عنه تكليف النهي وأن القُربة لا تكون قربة إلا إذا كانت غير ناشئة عن معصية.والأُسارى بضم الهمزة جمع أسير حَمْلًا له على كَسْلان كما حملوا كسلان على أسير فقالوا: كَسْلَى هذا مذهب سيبويه لأن قياس جمعه أَسرى كقتلى.وقيل: هو جمع نادر وليس مبنيًا على حمل، كما قالوا قدَامى جمع قديم.وقيل: هو جمعُ جمععٍ فالأسير يجمع على أسرى ثم يجمع أسرى على أُسارى وهو أظهر.والأسير فَعِيل بمعنى مفعول من أَسَرَه إذا أوثقه وهو فعل مشتق من الاسم الجامد فإن الإسَار هو السَّيْر من الجِلد الذي يوثق به المَسجون والمَوثوق وكانوا يُوثِقون المغولبين في الحرب بسيور من الجِلد، قال النابغة: وقرأ الجمهور أُسارى، وقرأه حمزة أَسْرَى.وقرأ نافع والكسائي وعاصم ويعقوب {تفادوهم} بصيغة المفاعلة المستعملة في المبالغة في الفداء أي تفدوهم فداء حريصًا، فاستعمال فادى هنا مسلوب المفاضلة مثل عافاه الله وقول امرئ القيس: وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة وأبو جعفر وخلف {تفدوهم} بفتح الفوقية وإسكان الفاء دون ألف بعد الفاء.والمحرم الممنوع ومادة حرم في كلام العرب للمنع، والحرام الممنوع منعًا شديدًا أو الممنوع منعًا من قبل الدين، ولذلك قالوا: الأشهر الحرم وشهر المحرم.وقوله: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} استفهام إنكاري توبيخي أي كيف تعمدتم مخالفة التوراة في قتال إخوانكم واتبعتموها في فداء أسراهم، وسمي الاتباع والإعراض إيمانًا وكفرًا على طريقة الاستعارة لتشويه المشبه وللإنذار بأن تعمد المخالفة للكتاب قد تفضي بصاحبها إلى الكفر به، وإنما وقع {تؤمنون} في حيز الإنكار تنبيهًا على أن الجمع بين الأمرين عجيب وهو مؤذن بأنهم كادوا أن يجحدوا تحريم إخراجهم أو لعلهم جحدوا ذلك وجحد ما هو قطعي من الدين مروق من الدين.والفاء عاطفة على {تقتلون أنفسكم}، وما عطف عليه، عطفت الاستفهام أو عطفت مقدرًا دل عليه الاستفهام وسيأتي تحقيق ذلك قريبًا عند قوله: {أفكلما جاءكم رسول} [البقرة: 87].والفاء في قوله: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم} فصيحة عاطفة على محذوف دل عليه الاستفهام الإنكاري أو عاطفة على نفس الاستفهام لما فيه من التوبيخ.وقال عبد الحكيم: إن الجملة معترضة والاعتراض بالفاء وهذا بعيد معنى ولفظًا، وأما الأول فلأن الاعتراض في آخر الكلام المعبر عنه بالتذييل لا يكون إلا مفيدًا لحاصل ما تقدم وغير مفيد حكمًا جديدًا وأما الثاني فلأن اقتران الجملة المعترضة بحرف غير الواو غير معروف في كلامهم.والخزي بالكسر ذل في النفس طارئ عليها فجأة لإهانة لحقتها أو معرة صدرت منها أو حيلة وغلبة تمشت عليها وهواسم لما يحصل من ذلك وفعله من باب سمع فمصدره بفتح الخاء، والمراد بالخزي ما لحق باليهود بعدتلك الحروب من المذلة بإجلاء النضير عن ديارهم وقتل قريظة وفتح خيبر وما قدر لهم من الذل بين الأمم.وقرأ الجمهور يُردون ويعملون بياء الغيبة، وقرأ عاصم في رواية عنه تردون بتاء الخطاب نظرًا إلى معنى من وإلى قوله: {منكم}، وقرأ نافع وابن كثير ويعقوب: {يعملون} بياء الغيبة وقرأه الجمهور بتاء الخطاب.وقد دلت هذه الآية على أن الله يعاقب الحائدين عن الطريق بعقوبات في الدنيا وعقوبات في الآخرة.وقد وقع اسم الإشارة وهو قوله: {أولئك الذين اشتروا} موقع نظيره في قوله: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5].والقول في {اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة} كالقول في: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدي} [البقرة: 16].والقول في {فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون} قريب من القول في {ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون}.وموقع الفاء في قوله: {فلا يخفف عنهم العذاب} هو الترتب لأن المجرم بمثل هذا الجرم العظيم يناسبه العذاب العظيم ولا يجد نصيرًا يدفع عنه أو يخفف. اهـ.
|